lundi 28 décembre 2015

هولندا.. الكتاب المقدس في غلاف القرآن




قامت مجموعة من الإعلاميين الهولنديين الشباب بتصوير مشهد، أجروا من خلاله تجربة طريفة تتعلق بالأفكار المسبقة وكيفية سيطرتها على العقل البشري، وخصوصاً فيما يتعلق بالآخر المختلف ثقافياً ودينياً. وقد أحاط صاحبو الفكرة الكتاب المقدس"العهد القديم" بغلاف ورقي كُتب عليه "القرآن" وبدأت التجربة بالتجوال في شوارع المدينة. وأمام المارّة، قام الشباب "النبهاء" باستعراض بعض المقاطع من نصوص عنيفة ودموية الحمولة، أو تلك التي تحمل إقصاءً للمرأة وتمييزاً متطرفاً فيما يتعلق بأهليتها أو حقوقها.
ورغم الإحراج، وعدم رغبة غالبية من تمت مقابلتهم بالتعبير عن الاشمئزاز او الرفض مما جاءت به هذه النصوص صراحةً، إلا أنهم في غالبيتهم أيضاً أوضحوا بأن الإسلام دينٌ عنفي ومتشدّد، وكادوا حتى أن يعلّلوا بذلك ما يحصل اليوم من إرهاب تحت "رايته"، بطبيعة النص وحتمية الإسناد.
بعد الوقوع في الفخ، يقوم أصحاب الحيلة بإزاحة الغلاف الورقي عن الكتاب ليظهر للمُستنطَق بأنه التوراة، فتقع الصدمة وتجمد العيون وتتلعثم الألسن ويخجل المعلقون، وتخرج عنهم ضحكات تنمّ عن انزعاج وحرج.
الفكرة لطيفة وهي توضّح مدى سوء الأحكام المسبقة بحق دين أو طائفة أو فئة أو عرق أو ثقافة. التجربة توعوية ويمكن ان يُستفاد منها في خلق مادة للنقاش حول الموضوع دون الدخول في تفاصيل ما هو النص وما هو الكتاب.
قابل كثيرون من المسلمين هذه التجربة بتعليقات "انتصارية" وتعبيرات تُشير إلى سوء النية لدى الآخر تجاه الدين الإسلامي، وبأن حمولة الشك في مضامينه تغزو العقول الغربية، وبأنه، أي الدين، بريء من هذا الحكم المسبق الظالم والذي يُراد منه تشويه الإسلام.
أضف إلى ذلك، فقد تكاثرت التعليقات التي تُشير إلى أن الكتب السماوية الأخرى تحمل جرعات عنفية ونصوصاً إقصائية، وأن القرآن الكريم ليس إلا دعوة إلى المحبة والسلام.
لو اقتصر الأمر على متابعة هذه التجربة واستخلاص الدروس والعبر منها حول مفهوم الحكم على الآخر وإساءة التقدير، لكانت نتائجها أكثر إيجابية من مجرد التقوقع في حصن الأنا "الأفضل، الأكثر إنسانية...". بالمقابل، لم يتوقف أحد ويُحسن الظنّ بمن أساء الظن!
لم يتساءل أحد من المعلقين عن السبب، أو أحد الأسباب التي دفعت من تم سؤالهم حول حمولة النص إلى الجواب بهذه الطريقة.
عند محاولة إيجاد عنصر إجابة واحد على الأقل، يمكن القول بأن ما تلقاه هؤلاء من دينهم في الفترة الحديثة التي كوّنت وعيهم، ابتعد عن النصوص العنفية التي تحمل الموت أو القصاص والعقاب أو الإقصاء والتمييز، والموجودة في كل الأديان السماوية. واقترب أكثر من الحمولة الإنسانية والمتسامحة الموجودة أيضاً في كل الأديان السماوية.
ما غاب عن المعلقين هو أن هذا المقطع المصوّر يضعنا أمام حقيقة ارتباط مفهوم، ولو مبالغ به، بنصٍ لا يملّ ولا يكلّ مستخدمون له من تحميله كل العنف والموت والقصاص والتمييز ضد الآخر.
من الممكن قراءة إدانة معكوسة إن أردنا أن نكون منصفين. فما تلقاه "الآخر" من علوم دينه، مهما كان هذا التلقي عميقاً أم سطحياً، يختلف مع ما يتلقّاه غالب المسلمين من علوم دينهم.
الأديان متشابهة إلى حد بعيد، ونصوصها الحاكمة أتت لإدارة مؤسسة اجتماعية وسياسية في ظرفٍ تاريخيٍ معين. أنسنتها هي وظيفة العاملين عليها أو العلماء فيها.
الأنسنة التي أشار اليها الراحل محمد أركون لا علاقة لها بتعديل النص كما يدّعي المتطرفون. بل هي في مواءمته لحياة الإنسان آخذين بعين الاعتبار الزمان والمكان والظرف التاريخي.
ورشات عمل وفكر هرب منها غالبية العلماء وسايروا التيار الظلامي أو الضبابي الذي أنسانا اجتهادات القدماء العارفين بنصوصهم والعالمين بدينهم وبدنياهم.
الشريط المصور الهولندي يُقرأ إذا بطريقتين كلتاهما صحيحة. وفي القراءة من جانب واحد دون الآخر هروبٌ مستمرٌ من ضرورة مواجهة الواقع.
في محاضرة أخيرة، سألت بعض الطلبة عن تاريخ تأسيس "داعش"، فأجابني أحدهم بتلقائية وعفوية: "منذ القرون الوسطى"، فأضحك الحضور وأضحكني لوهلة، ولكنني سرعان ما تنبّهت إلى بعض صوابية جوابه وتذكرت قولا قديماً لا نجد له في العربية إلا الذكر القليل، حيث اعتبر أحد كبار الفلاسفة الفرنسيين بأنه في القرون الوسطى "كان هناك مسيحيون ويهود وفلاسفة". وهو أراد بالفلاسفة المسلمين. منذ أن أحرقنا كتبهم وأوصدنا باب الاجتهاد والتفكير، تهيأت الأرضية للظلامية.